التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي



 شاركتُ بالأمس في حلقة نقاش علمية في الجامعة الأمريكية في الكويت، تتعلق بتأثير الذكاء الاصطناعي على التعليم العالي، حيث تحدثتُ باقتضاب عن مستقبل التعليم العالي في ظل الثورة الصناعية الرابعة وما يصحبها من إيجابيات وتحديات. فحسب تقرير مستقبل الوظائف في نسخته الأخيرة   2025 والذي يصدره المنتدى الاقتصاد العالمي بشكل دوري (مع تحفظنا على مثل هذه المؤسسات الدولية)، فإن حوالي 60% من الموظفين سيلزمهم تعديل مهاراتهم أو تغييرها جذريًا لتوائم احتياجات سوق العمل وذلك بحلول عام 2030.  لا شك أن الذكاء الاصطناعي، والتوليدي بالتحديد (سامحونا على الترجمة، وخصوصًا أخواتنا القابلات)، سيكون المؤثر الرئيس في مجال التعليم. ونظرًا لحداثته نسبيًا وتفاجئ الجمهور بإمكانياته العجيبة، حيث أوهمهم بذكائه وفهمه الظاهري لما يسألون ويطلبون، وما هي إلا حسابات معقدة تتوقع أفضل الكلمات والمفردات لنسج ردٍّ متماسك لا يفهم هو كُنْهَهُ وروحه، ولكن يقنعك بسحره فلا تملك إلا أن تنسى أنك تتحدث إلى آلة.

تجاذب الأكاديميون أطرافه وتجادلوا في أفضل الطرق للتعامل معه؛ فمنهم من طرح حظره في البداية، ومنهم من سلّم أمْرَهُ وعانقه واعتنقه، وكلاهما متشدّدٌ وطرحهما غير مقبول. فكما يقولون: "لقد خرج الجني من الزجاجة ولن نستطيع إرجاعه". فالسؤال الآن: كيف سنتعامل معه؟ وكيف سنروّضه كأكاديميين؟ فهو كالحصان البرّي الهائج، تدفعه للجموح شركات عملاقة دينها وديدنها الربحية وإغراء الجميع بالركوب واستخدام قوته في كل شيء، حتى التعليم ولو على عمى، فهُم والمستثمرون بالمليارات يسعون إلى جني قطافهم في أقرب حين ولو قبل النضوج. وقد حذّر بعض الخبراء الاقتصاديين من فقاعة شبيهة بفقاعة الإنترنت أواخر التسعينات.

ولذلك حُقّ للباحثين والأكاديميين والفلاسفة والمهندسين والمهنيين والمتعلمين أن يكونوا متوجسين، ويتقدموا ببطء بعد التباحث ودراسة تأثير هذه الأداة المذهلة المُمكّنة لتحقيق الغايات والأهداف التعليمية وتسليح المتعلمين بالمهارات المناسبة للثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، حيث سيكون للذكاء الاصطناعي فيها دور كبير، وهذا ما سمّاه التقرير الأخير للمفوضية الأوروبية "التدريس للذكاء الاصطناعي Teaching for AI " وهذا مختلف عمّا نتحدث عنه هنا وهو "التدريس باستخدام الذكاء الاصطناعي Teaching with AI " حيث تتناقض الدراسات الحديثة وتختلف في فعاليته وتأثيره على العملية التعليمية. ولعل أهم الدراسات في رأيي هذا العام هو ما قامت به جامعة MIT بفحص الدماغ وتصويره لثلاث مجموعات أثناء قيامهم بمهام معينة، وتبيّن أن أسوأها تلك التي اعتمدت على ChatGPT، بل جعلتهم يكسلون ويستسلمون مع تقدم المهام في التجربة.

باختصار، يجب أن نتعامل مع الذكاء الاصطناعي التوليدي كظاهرة تكنولوجيا مُزعزِعة disruptive technology على حد وصف بروفيسور كلايتون كريستنسنوبالتالي نحتاج إلى تقييمها وتطويعها بما يتوافق مع أهدافنا في فلسفة التعليم وأهدافها التفصيلية، وهذا ما أطلق عليه الباحثون مؤخرًا "الثورة التعليمية الرابعة". ولا شك أنها فرصة ذهبية يمكن استغلالها لإجراء تعديلات جوهرية لطالما أردنا القيام بها وذلك بالتحرر من الأساليب التقليدية وحشو المعلومات ثم اجترارها في الامتحانات للحصول على الشهادات، والانتقال إلى تعليم يسلّح الخريجين بمهارات المستقبل الفنية والتقنية والموضوعية، ويعزّز من مهارات الإبداع والتواصل والقيادة وحل المشكلات المعقدة والذكاء العاطفي. وتلك مهارات يزيد من أهميتها تطوّر أنظمة الأتمتة وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي.

وهناك العديد من الأحلام الأكاديمية التي أصبح تحقيقها في الواقع أقرب من أي وقت مضى، كتخصيص التعليم personalization ليتجاوب مع احتياجات كل متعلم على حدة، بالإضافة إلى تعزيز التقييم المعياري الفوري normative assessment لكل طالب إذا تمّ من خلال منظومة مضبوطة يقودها المعلم في جميع مراحل العملية التعليمية، كالتي وصفها بيل كوني وزملاؤه وهي "التعلم الاجتماعي السيبراني Cyber Social Learning" في تقرير اليونسكو لهذا العام، والذي تبنّى فيه مركزية الإنسان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هالة التشات جي بي تي ChatGPT

  يتسابق الجميع في إدخال الذكاء الاصطناعي في عملياته ومنهم من ينتظر، وبعضهم يزعم استخدامه من أجل إظهاره تطوره وقدراته فتراه مثلاً يدخل Chatbot للتواصل مع العملاء وتتفاجأ أنه يستسلم من أول جولة ويحولك إلى الموظف، ثم جاء ChatGPT وأعطى الناس فكرة بسيطة عن الإمكانيات الحقيقية المذهلة للذكاء الاصطناعي في المستقبل، وما يدور خلف الكواليس في غرف شركات التكنولوجيا العملاقة.   لا شك أن بزوغ هذا النجم والحديث عنه في الإعلام بكثافة جعلنا نستمع لبعض من استخدمه ومدحه أو ذمه وقد جربته بنفسي قليلًا لأرى إمكانياته، ولا شك أنه مبهر للوهلة الأولى وربما هذا ما جعله حديث الناس حيث تلقفه الإعلام وكالعادة قام بتهويل إمكانياته وهذا ديدنهم (وطبعًا في بلادنا ممكن أكثر شوية لأنه طاسه وضايعه إلى حد ما) لكن بشكل عام الإنسان متعطش دائما بالفطرة لأي جديد ومثير (هكذا جُبل دماغنا)، والإعلام يجري خلف الأخبار التي تصدح لأنها بالمال تصدع، وقد أصبحت التكنولوجيا كغيرها من المواضيع يتحدث بها الناس في جلساتهم مثلها مثل كل شيء آخر وليست محصورة على المتخصصين وخصوصاً بعد وصول الانترنت والهاتف الذكي أيدي الجم...

تعلم على راحتك

من فترة جاءت برفيسور لندا هيل من هارفرد الى الكويت وكانت محاضرتها ليلاً ( يعني بدك تترك أولادك وبعد تعب الدوام واللي زي بنام  بدري فيها غلبة  كثير   ، وطبعا لازم تسجل وقصة) ، وكعادتي كتبت ملاحظات للاستفادة والإفادة من خلال مدونتي باقتباس تعليق أو جملة مفيدة أو مصدر مهم! لكني وجدت محاضرة لها على تيد  TED  شبيهة جداً بما قدمته لنا وها أنا أنشره لكم للفائدة ( هنا ) لأنها كانت محاضرة مميزة. رسالتي هنا ، أننا  حقاً محظوظون مقارنة بمن سبقونا ،  فنحن  نشهد وفرة كبيرة من المعلومات التي يمكن الاستفادة منها دون تعب أو سفر ، خصوصاً مع توفر الكثير من المصادر المتاحة دون تكلفة أو تكلفة بسيطة ، من خلال الانترنت سواء القصيرة أو الطويلة الممنهجة مثل  coursera , edx, udemy, Khan Academy, TED talk, HBR , MIT opencourseware    وطبعاً الكتب الالكترونية المتوفرة الآن بطريقة خيالية لا نحتاج إلى سفر (ولا نوصي حد من الجامعة الاردنية وهو نازل على الجسر: كما كنا نفعل أيام الجامعة في آواخر التسعينتات)    ، الآن مباشرة من أمازون كندل ،...

تجربة استونيا التنموية

   شاركت في مسابقة رياضية وثقافية وسط صحراء الكويت، وكان أحد الأسئلة متعلق بالجغرافيا، حيث ظهر علم مخطط بالأزرق والأسود والأبيض اختاره طلاب جامعة تارتو في استونيا لجمعيتهم الطلابية ثم أصبح علم الدولة، ولا أدري كيف حزرتُ الإجابة حينها، ولم يخطر في بالي أني سأزورها في نفس العام، فهي دولة أوروبية شرقية، وغير معروفة بالسياحة أو أي عامل جذب غير السونا مثلها مثل فنلندا وجيرانها وليس في ذلك تمايز.  انطلقنا الأسبوع الماضي ضمن وفد رائع من خريجي مؤسسة القدومي المتميزة في دعم برامج بناء الإنسان الفلسطيني ورأس المال البشري. اجتمعنا بدعوة من المؤسسة رغم تشتتنا في بقاع الأرض ولقد  أحسنت إدارة المؤسسة باختيارها هذه الدولة لدراسة تجربتها والاستفادة منها، ف استونيا دولة تعداد سكانها أقل من مليون ونصف نسمة، مرت بفترات عصيبة واحتلال سويدي ودنماركي وألماني وروسي لسنوات ولكنها لم تنقرض وناضلت وسرعان ما تقدمت بمجرد أن تحررت، وقد تمكنت من مضاعفة دخلها القومي ثمانية أضعاف خلال ما يقارب عشرين سنة، بدعم غربي وهذه قصة بحاجة إلى تفصيل وتعليق منفصل في مناسبة أخرى.   هذه الدولة الصغيرة ...