الحرية منصة مهمة وحجر أساس رئيسي لبناء مجتمع قادر على الإبداع، فتوفير بيئة "صحية" بحيث يشعر الناس بالأمان في بيوتهم وأعمالهم، وبالتالي يطلق لهم العنان للتعبيرعن مكنوناتهم الإبداعية بأريحية، فتتألق الأفكار والآراء ضمن الدوائر الاجتماعية الصغيرة و الكبيرة، بل يتجاوزها إلى العالمية من خلال توفر الفضاء الأكبر، ضمن مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، حيث مكنتنا التكنولوجيا جميعاً من التعبير عن آراءنا، و خلق محتوى يمكن أن يساهم ولو بشكل بسيط في محيطنا، رغم أن هناك من يسيئ استخدامه من كثر استخدامه في غير مكانه، و أحيانا يتبجح تحت مظلة الحرية في أسوء صورها فتجده يتجنى و يجرح متحمسا بحق أو بباطل فيكفر و ينفر، وقد يسب و يقذف من اختلف معه في رأيه او رأي مذهبه أو ملته.
الحرية كمبدأ تم مأسسته ليصبح جزء من المعادلة التي نقلت أوروبا من أعماق الظلمات إلى النور، والانفتاح في الأفكار والإبتكار، وبالتالي التقدم في الاقتصاد والصناعة والزراعة والأدب والرياضة، رغم أنها جلبت معها بعض المصائب حيث الحدود بلا حدود أحياناً، و الذي يمكن تجنبه في بلادنا العربية من خلال الاستناد إلى ما تبقى من ثقافتنا الشرقية الجميلة حيث التأدب مع الكبير، ومراعاة الصغير، ومساعدة المحتاجين والترفع عن البغيضة والإباحية، واحترام الأديان، وغيرها من خصال مازالت صامدة في مهب الريح.
وتكميلا لثقافتنا الغنية و ليس هدما شاملًا و بناءً على أرض خضراء، لابد من التدرج بنشر ثقافة الحرية إبتداء من الأسرة التي تشكل شبكة أمان لأبناءها وبناتها الصغار ليتناقشوا ويتحاوروا ويخطئوا ليتعلموا باحترام وحنان.
ما نحلم به هو أن ينتقل الطفل من البيت وقد تربى على الحرية فتستمر معه المدرسة في نفس المنهجية التي تدعم حرية التفكير والتأمل، وتحدي الواقع الحالي للإتيان بجديد خَلَّاقْ، فيحتضنه المعلم ويعزز فيه القدرة على التحرر من المحددات ليفكر خارج الصندوق في كل مرة يواجه فيها مشكلة اجتماعية أوعلمية أو تقنية، و عندما يصل إلى الجامعة تكون قواه جامحة في تحدي المستحيل وابتكار الحلول في مساقاته ومشاريعه ، فتمهد له الجامعة طريقه نحو الريادية والإبداع، ليساهم في رقي بلده، و ينخرط في النهاية في وظيفة، و بيئة عمل توفر الحرية كما نصحت "تيريسا أمابايل": في مقالتها في "مجلة هارفرد" المتعلقة بكيفية تعزيز الإبداع في المؤسسات - انتهى الحلم - .
صحيح أن الإبداع و الابتكار بحاجة إلى مكونات أخرى مثل توفير البيئة، والتنظيم، والسياسات، والاجراءات الإدارية اللازمة وبناء المهارات، إلا أن عامل "طريقة التفكير" أو ما يسمى mindset وما يحويه من محرك للتغيير في مناحي عدة لتحقيق النجاح كما ذكر "كارول دويك" الذي عنون كتابه بذلك ، إلا أن الثقافة المحيطة وما تحويه من مبادئ راسخة تحتاج سنينَ حتى تتكون وتتحور، وبالتالي لن يتحسن الوضع من خلال برامج ومشاريع قصيرة الأمد، فالموضوع أكبر من أن يحل بعصى سحرية!
وإذا تحدثنا عن العصور كما قسمها "دانييل بينك" في كتابه، فلعل قيمة الحرية تزداد أهميتها أكثر وتتناغم بشكل أكبر مع عصر الإبداع الذي نعيشه الآن، ففي عصر الصناعة ومن قبله الزراعة لم يكن التجديد والابتكار المستمر في المنتجات والعمليات وطرق العمل مطلوباً إلى الحد الذي نشهده حالياً، وبالتالي يجب أن نترك عجلة الدماغ تسير دون احتكاك كما يقترح "اوزبورن" مبتكر مبدأ العصف الذهني، وأن لا نخشى الأخطاء والفشل بل نحتفل بها كما شرح لنا أسترو تيلر في حديثه في مؤتمر "تيد" 2016 في فانكوفر والفلسفة التي تتعامل فيها جوجل مع موظفيها الذين يعملون في مشاريع مستقبلية تتحدى الواقع باستمرار.
إذن زراعة الحرية الحقيقية أمر عصيب، ومهمة طويلة لمن أراد السير فيها، فلذلك يتجنبها كثير من الآباء والمدراء والحكام، ليحققوا "الفعالية" من منظور النظرية الإدارية المعروفة بالمركزية، و يضاف إليها التنفيذ بعسكرية معتمدة على "عبقرية" فردية و"توتاليتاريانية" totalitarian ، حيث أن مساحة الحرية فيها تحتاج إلى أذون رسمية، هذه السياسات بات تطبيقها أصعب بعد الانفتاح الكبير ولن تصمد طويلاً وفي كافة المستويات سواءً الأفراد أو المؤسسات.
-- المقال منشور في هافنجتون بوست
عزيزي د. حسام،
ردحذفنحن بحاجة الى تحرير النظام التربوي ... لنتحرر.
شعوري عندما اقرأ لكتاباتك يجعلني احس بثنائية عجيبة (بسعادة المتفائل للتغير)(واحباط المتبصر للواقع) بنفس الوقت و احيانا يتفاوت القدر،
شكرا يا صديقي
شكراً أستاذ ماهر على رسائلك التي ألمس فيها دائماً حرصك وهمك لنهضة مجتمعية ونحن نشاطرك المشاعر بالتأكيد !
حذف